الاثنين، 21 أكتوبر 2019

المتبخِّرون

هزيمة جديدة أمام سطوة (اليوتيوب) ومقاطعه التي لا تنتهي. "من هم المتبخرون؟" ظل هذا التساؤل يقرع أبواب دماغي بشكل مزعج بعد أن شاهدت مقطعًا يحمل نفس العنوان، ورغم أني لم أرد السماح لهذا التساؤل بالتغلغل في ذهني، لكنه اقتحمه رغم ممانعتي وإصراري على الإنصراف لدروسي وواجباتي، ولم يكن هذا استسلامي الأول لقهر التقنية وإغرائها، ولكن لعّل في الاستسلام ما يقود للاستبصار والتأمل.

المتبخرون هو عنوان لفلم وثائقي يستعرض ظاهرة فريدة من نوعها في اليابان، ولا تستغرب على إنسان العصر الحديث الذي ينزف من الداخل ويتم تفريغه من قيمه التي فُطر عليها. المتبخر هو شخص يقطع صلته بعالمه ويغادر لآخر جديد، بدون إنذار مسبق لأقربائه، أو رسالة يبرر فيها قراره لهم. العلاقات الأسرية والصداقات والمدينة بما احتوته من ذكريات يتركها المتبخر خلفه ليمضي وحده، ويعيش حياة جديدة. والسؤال الذي يحاول الفلم إجابته هو لماذا؟ وما هي الدوافع؟


في الأرقام التي ظهرت في الفلم، هناك قرابة المئة ألف متبخر سنويًا، أغلبهم يعود في النهاية لعالمه الذي تركه خصوصًا متوسطي وكبار العمر، وعدد أقل من المتبخرين يعثر عليهم بعد انتحارهم، ونسبة قليلة جدًا تظل مختفية للأبد. استعرض الفلم أربع حالات للتبخر والاختفاء، الأولى لربة أسرة هربت بأطفالها وأمها من عنف زوجها، الثانية لشيخ غادر دار العجزة الذي كان يعيش فيه مع زوجته بعذر خلافه مع مسؤولي الدار، الثالثة لرجل على مشارف الخمسين ترك أطفاله وزوجته خلفه لفشله الوظيفي وشعوره بالعار، الأخيرة لشاب في مقتبل العمر غادر عائلته دون سبب واضح. الحالة الأولى لا تثير فضولي، بعكس بقية الحالات. 

الشيخ غادر دار العجزة ولم يخبر زوجته، وانتقل لمدينة أخرى استأجر فيها مكانًا له وحده، لم يتواصل مع زوجته إلا بعد أن علمت أنه ما زال حيًا، أرسل لها رسائل من مكانه المجهول لدفعها للتوقف عن البحث عنه، ولأن مكانه وعنوانه مجهول فإنه وحده من يستطيع إرسال الرسائل، وعليه فإنه أيضًا يستطيع قطعها متى شاء دون التبرير أو الرجوع لأي أحد. يستثيرنا هنا هذه الأنانية المفرطة الفجة، وتقديس الذات والرغبات الشخصية دون أدنى مبالاة لرفيق وعشير العمر، الذي ليس له إلا كفكة الدموع، وترقب رسائل قد تنقطع في أي لحظة.

الخمسيني ورث شركة ناجحة من والده، ولكنها تدهورت وأصبح يخرج بها من خسارة مالية ليقع في آخرى، ليقرر الهرب في النهاية، تاركًا زوجته وأطفاله خلفه. بدأ من جديد في وظيفة متواضعة، تفطرت كبده على أطفاله فأصبح يتردد عليهم بعد انقطاع تام دام لسنتين، ولكنه يرفض العودة والعيش معهم، متعذرًا بقلة مرتّبه وحرجه من ضعفه المادي. وأما أطفاله فسيعذرون أباهم بعد أن يكبروا ويدركوا سبب هربه، وسيتفهمون أن هذا سبب كافٍ لحرمانهم من أبيهم. هذه النتيجة ليست مستغربة من عصر الفردانية، الذي يضع الفرد لوحده مقابل الحياة، ونجاحه - ويمكن ان نقول نجاته - لا يقوم إلا على قدراته الشخصية ومهاراته في مواجهة الحياة والتكيف معها. وإذا كان مفهوم النجاح ماديٌ محض منفصلٌ عن قيم مثل الاستقامة وأهداف نبيلة مثل التربية، يصبح الاقتدار المادي هو ما يحدد موقع الإنسان في المجتمع ويحكم نظرة الناس له، ونظرة الفرد لنفسه. وعليه فالقصور المادي وصمةٌ تلاحق الإنسان وتضعه في قاع المجتمع، وتعبّر عن نقصٍ في المواهب وافتقارٍ للذكاء والمهارة. فلا نتعجب أن يكون الشعور بالعار من الفشل الوظيفي عذرٌ كافٍ لهجر الأسرة، ورمي مسؤولية الأطفال على الأم وحدها.

الشاب (ناوكي) غادر بلا سبب واضح. كان قبل أسبوع من اختفاءه يحكي أحلامه لعائلته ويشاركهم مستقبله الواعد الذي يتخيله، ولكنه اختفى فجأة، هرب وتبخر بلا أثر. بعد انتظار دام لسبعة عشر أعوام كل ما تريده عائلته هو معرفة إن كان ما يزال على قيد الحياة، لأنه وإن اختفى وقطع عرى التواصل معهم، فهم على الأقل سيعلمون أنهم يتنفسون الهواء الذي يتنفسه، ولعّل زفيره يخبر قلوب أحبابه عن حاله.

حالات التبخر هذه تشترك في الأنانية، وتنكّر للمسؤولية، والتباس كبير في أولويات الحياة. كما أنها جبانة جدًا، فمن يختفي لا يواجه غيره بقراره ويبرره لهم، وإنما يختار التبخر المفاجئ، وقطع كل حبال التواصل. ضمير المتبخّر متجمد، لا يذيبه قلب الأم المكلومة الذي يستعر شوقًا ولهفة، ولا تحركه حرارة دموع الجزع التي تذرفها الزوجة، ولا يثير فيه حزن الأطفال أي لوعة، مُصمَت كالصخر جامدٌ كما الحجر.

قوانين الخصوصية في اليابان تسهّل حالات التبخر والهرب لمن يريد، فلا يحق لأحد أن يطلب معلومات عن مكان المتبخر أو وسيلة للتواصل معه إذا اختفى بإرادته. وهنا نقف أمام تساؤل مخيف، ماذا لو كانت قوانين الخصوصية هذه مطبّقة في دول أخرى؟ أعتقد أن حالات الهرب والتبخر ستزيد، وأن هنالك أناسٌ لن يترددوا في سلوك نفس الطريق إذا ضمنوا أن أحدًا لن يعثر عليهم. في اليابان حالات التبخر مستمرة ومنتشرة، وأعتقد أن (القابلية للتبخر) موجودة في أماكن أخرى كثيرة، الفرق أن التبخر سهلٌ في اليابان وصعبٌ في غيرها.

أذكر اني شاهدت مقطعًا يحاول تفسير ظاهرة انتشار السفّاحين (القتلة المتسلسلين) في أمريكا، وورد ضمنها أسبابٌ مثل ضعف الأجهزة الأمنية، وبدائية أساليب التحقيق الجنائي، وسهولة ارتكاب الجريمة والتسلل لمنازل الغير، وكذلك كثرة المغتربين الذين لا يثير اختفاؤهم الكثير من التساؤلات، وسهولة تنقل السفاحين بين الولايات، وغيرها من الأسباب. ولكن هنالك خطأ منهجي في هذا التفكير، فكلّ تلك الأسباب تتناول الظروف التي جعلت من القتل جريمة سهلة الارتكاب دون الخوف من ملاحقة الأجهزة الأمنية، أي عندما اصبح القتل سهلًا ومأمون العواقب ارتكبه الكثير، وعندما تطورت الاجهزة الأمنية وأساليب التحقيق انحسرت هذه الظاهرة. ولكن هذه الأسباب هي قشور تخفي اللب الحقيقي، وهو لماذا يستمتع انسانٌ بقتل آخر ؟ ولماذا انحطّ قدر الإنسان ليتم قتله دون ندم وتحسّر؟ فهل إذا توفرت نفس الظروف السابقة ستعود ظاهرة القتل للظهور من جديد؟ ربما تكون (القابلية للقتل) موجودة ومنتشرة، وأن هنالك أشخاص لن يترددوا بارتكابها اذا ضمنوا نجاتهم من العواقب.

(القابليّة للتبخّر) ومثلها (القابليّة للقتل) ربما تكون موجودة في إنسان العصر الحديث، ولكنها لا تظهر للسطح إلا إذا توفرّت الظروف الملائمة. المأساة الأخلاقية هي وجود القابليّة بحد ذاته، حتى لو لم تترجم إلى أفعال وبقيت مختبأة في النفوس تتحيّن الفرصة الملائمة لتظهر وتكشف عن نفسها. ربما يكون إنسان العصر الحديث ليس متحضرًا أخلاقيًا كما يتصور البعض، فهو قد لا يتردد بارتكاب الجرائم إذا تم تشريعها قانونيًا، أو إذا ضمن نجاته من التبعات القانونية. إذا كان مصدر الإلزام الأخلاقي هو القانون فقط، بعيدًا عن إله متعالٍ لا يخفى عليه شيء، فلا يجب أن نتوقع الكثير من إنسان العصر الحديث على الصعيد الأخلاقي. 

رواية (العمى) لساراماغو تدور حول ذات المفهوم، ينتشر وباءٌ يسبب العمى في إحدى المدن، ومع فقد السيطرة عليه تنتشر موجة من الذعر والهلع ينعدم معها النظام، ولا يبقى إلا الإنسان مقابل الإنسان بدون سلطة قانونية تقيّدهما، لتتحول المدينة لاحتفال صارخ بالوحشية والهمجية واستغلال القوي للضعيف وظلم القادر للعاجز. ومثله أيضًا الاقتباس الشهيّر لـ(إيفان) بطل (ديستويفسكي) عندما قال "إذا كان الإله غير موجود، فكل شيء مباح". إذا فُرّغ الإنسان من القيم المتعالية والمطلقة، فلا نستغرب أن يختفي ويتبخّر.

والآن سأعود لأستأنف ما قطعه هذا الفلم.