تجاوز
باب العمارة ببطء شديد يقارب السكون، بينما أخذت عينه تفتش الردهة وكأنها تبحث عن
شيء ما، ولكنها لم تتوقف على شيء محدد واستمرت تتجول في أنحاء المكان. بدا كأن
قدمه ضربت جذورها في الأرض، بينما اقتلعت الريح عينه وطارت بها في أنحاء الردهة
كلها، كورقة تائهة تتقلب بلا هدف.
تبعت
نظرات الحارس الرجل بمزيج من عدم الفهم والاستغراب. بعد أن عركته السنين وساعات
العمل الطويلة أصبح لدى الحارس قدرةٌ على تحليل أحوال الناس من طريقة مشيهم
ودخولهم، ولكنه لم يحتج لها الآن، فلو أنه وُلد لتوّه ثم وقعت عينه على هذا الرجل
لأدرك أن هنالك خطبًا به، حتى زوّار العمارة قليلي التردد عليها ومن يدخلها لأول
مرة لا يتصرفون بهذه الطريقة.
وقف
الرجل أمام اللوحة التي تحمل أسماء السكان، جال ببصره عليها بطريقة توحي أنه كان
يبحث عن اسم معين، وقعت عينه على مبتغاه: " الشقة ٦: رعد فريد ". كان ذلك اسمه،
وتلك هي شقته التي يعيش فيها منذ خمس سنين، والتي غادرها قبل بضع ساعات.
تأمل
باب شقته لوهله قبل أن يخرج علاّقة مفاتيحه، قرر أن يجرّب المفاتيح بالتعاقب ليصل
للمفتاح الصحيح. أول مفتاح وقعت يده عليه كان صغير الحجم ويلتف على جزء منه قليل
من البلاستيك الأسود، ومكتوب على ملصقه " درج 4"، أدخله في ثقب القفل
وحاول أن يديره ولكن الباب ظلّ مغلقًا. تعاقب على المفاتيح واحدًا بعد الآخر حتى
تمكن من فتح الباب، ودخل إلى شقته.
جرّ
خطاه ببطء مميت، كأنه يتوخى فخاخًا نصبها له شخص ما. جلس على كرسيه الخشبي الذي
يتوسط غرفة المعيشة ولم يفعل شيئًا، ظل قابعًا فيه لا يتحرك. لم يكترث لهجمات أشعة
شمس الظهيرة التي تعزو مسكنه، ولا إلى النافذة التي تواطئت معها وسمحت لها بالتسلل
لشقته، ضجيج ذلك العالم البعيد الذي يقبع خارج النافذة لم يعد يسمع، تلاشت أبواق
السيارات المسرعة، ويبدو أن القطط المزعجة حلّت نزاعاتها أخيرًا واختفى مواؤها
الصاخب. جميع الأشياء والأصوات والأفكار تماهت إلى شيء واحد. شيء شفاف يهرب من
العين، وصوته خافت لا تلتقطه الأذن، كل شيء في عالم رعد فريد في لحظته هذه ليس له
وجود، ما عدا ساعة الحائط التي ظل يحدق فيها منذ أن جلس، لا لأنه مهتمٌ بالوقت،
بل لأنها كانت هدية من صديقه. أو بالأحرى الشخص الذي كان يظنه صديقه.
"
هل كان صديقي حقًا؟ بالطبع لا، أو على الأقل ليس بعد الآن. ولكن منذ متى؟ لو لم
أقع قبل ساعات بالصدفة على وشايته لم أكن لأعرف أبدا، وكنت سأكمل يومي وحياتي على
أنه صديقي المقرّب؟! يا لهذا الشعور الشنيع. ولكن حقًا منذ متى؟! رأيت دموعه
ومسحتها بنفسي عندما مات والدي، كان دائمًا يقف معي ويؤازرني، وثقته فيني كانت
أكبر من ثقتي بنفسي، هل كل ذلك كان كذبًا من نوعٍ ما؟! تلك الأيام والذكريات،
والآلام والأفراح التي عشتها، كلها استحالت إلى ما أنا عليه اليوم، قد لا أعلم ما
أنا أو من أنا، ولكني دائمًا أقف على ذلك الماضي الذي نشأت فيه، وحب أولئك
القريبين وعطفهم، والآن كل ذلك أًصبح زيفًا؟! ذلك اللعين!! لو أنه مات فقط لكن
الأمر أسهل بكثير، عندما مات أبي ومن بعده أمي لم يكن الأمر مربكًا هكذا. كان
الألم فظيعًا ومروعًا، ولكنه لم يكن معقدًا أبدًأ. بالتأكيد أن خسارة أبي كانت
جسيمة وموجعه ومثلها خسارة أمي، ولكنهم ذهبوا فقط، وبالتأكيد لن أستطيع أن أراهم
مجددًا، ولكني على الأقل ما زلت أنا. أمّا هذا اللعين بخيانته تلك فقد تركني
مشلولًا. لا يحتاج الأمر سوى مرة واحدة فقط، لو سقط هذا السقف عليّ مرة واحدة فقط
لصاحبني رعب وخوف من الأسقف والجدران طوال حياتي، بالطبع سكنت تحته آلاف الأيام
ولم يسقط، ولكن إذا كان سقط مرة لم لا يسقط مرة أخرى؟! وإذا كان هذا السقف الذي
كنت متيقنًا أنه لن يسقط عليّ، قد سقط ولو لمرة واحدة، فما الذي لن يحدث أيضًا؟ كل
شيء من الممكن أن يحدث، ذلك الخوف قاتلٌ حقًا، ولن يسمح لك أن تفعل أي شيء بعد أن
انتزع إيمانك وثقتك كلها. لا لا، الأمر ليس بهذا الشكل، إذا خانك أحدٌ ما فلم لا
يخونك شخص آخر؟ بالتأكيد أن هذه الفكرة مريعة، ولكن ربما مع الوقت تستعيد جزءًا من
ثقتك شيئًا فشيئًا، ولكن ماذا عن ذلك الماضي؟! هل أستطيع أن أعود لأعيشه مرةً
أخرى؟! ما هذه الورطة! لا يكفي أن أحاول استعادة ثقتي وحسب، بل أن أعود لذلك
الماضي وتلك الذكريات وأنظر لها بعين مختلفة؟! ماذا يتبقى مني إذًا؟ ماذا يمكن
لشخص فقد ماضيه أن يفعل في مستقبله؟ على ماذا أرتكز وأستند؟ هنا تقع الورطة
الحقيقية، ذلك اللّعين بخيانته، غيّر الماضي والمستقبل معًا!! والآن يجب أن أبدأ
جديد"
نهض عن
كرسيه بعد أن أرهقه التفكير، وبدأ يبحث عن غرفة النوم. عندما استلقى على فراشه
أخيرًا، تسللت منه ابتسامة خفيفة، " من حسن حظي أن الشخص الذي كان يعيش هنا
سابقًا لديه ذوق ممتاز عندما اختار هذه الأغطية الناعمة "
2019/09/30