(1)
بدأ
الحصير الذي يفصل بين الجسد المتغضن ورمل الشاطئ بالبلل، تسربت رائحة الهواء الرطب
من بين ألواح الخشب وعسب النخل إلى أنف العجوز النائم، تغلغلت داخل جسده ووخزت
قلبه فأيقظته. خرج من مسكنه المتواضع الذي يشرف على البحر، ورفع رأسه للسماء.
كان
سواد السحاب يبشّر بعاصفة هوجاء، تفاءل هذه المرة أن تكون شديدة بما يكفي. فمنذ
ذلك اليوم تآمرت السماء عليه ولم تحاول إغاثته سوى بأربع عواصف، لم يحتج خلالها
إلى النزوح بعيدًا عن الماء المضطرب، ففيضان البحر لم يكن عنيفًا، وكان يكفيه أن
يصعد التل القريب، لم يكترث لكوخه الذي تجرفه المياه، تعامت عينه عن الأرض وما
يجري فوقها، وضاعت في الامتداد الفسيح للبحر الهائج، تبحث وتهيم بين الأمواج،
متسولةً للبحر أن يبوح لها بما فيه. حبل رجاءه الذي فتلت الأيام خيوطه واحدًا
بعد آخر يكادُ ينقطع، وأملّه كله معلق على العاصفة التي تحتشد أمامه.
عزّاه
أصحاب القرية حينما جاءت الأخبار بمصير ابنه، ولكن المعزِّ الأخير لم يأت، وظل العجوز
ينتظره لخمس سنوات. كان يمنّي قلبه بعاصفة شديدة تنتزع العزاء الأخير من هذا البحر
الأخرس.
(2)
كما
توقعت عاد زوجها مبكرًا للغداء، ففي مثل هذا الطقس المتقلب كان لا يطيق صحبة صديقه
مدير البريد، ويفضل تناول غداءه في المنزل.
كان دخوله صامتًا، ولكن حدة نظراته وتقطب جبينه وتقوس حواجبه فضحت نار
الغيظ التي تكويه من الداخل. ولأنها مخلصة له فقد فعلت الشيء الوحيد الذي تجنبه كل
من رآه اليوم. وضعت طبق الغداء أمامه وسألته بوجه طفلٍ برئ هل حدث شيء اليوم؟
-
هل حدث
شيء؟! ذلك الأحمق لا تكاد تجتمع سحابتين في السماء إلا ويلمع العرق من جبهته.
-
بالطبع
سيصاب بالحرج، فالأهالي يحمّلونه مسؤولية الحادثة.
-
لا
أعلم لم أُحاط بالحمقى دائمًا، وأنتِ لا تختلفين عنهم كثيرًا، من سوء حظي أن أعيش
في مدينة الحمقى هاته. لماذا تصفينها بالحادثة؟! لم المبالغة؟! هل مات أحد أو فقد شيء من المال؟!
المسألة كلها سخيفة ولا أدري لم هذا الأحمق يتحرج منها أصلًا، فما بالك بعد مضي
خمس سنين؟! اسمعي أنا أتعاطف معهم لفقدهم أبنائهم دفعة واحدة وبشكل مفاجئ، ولكني
لا أفهم هذه التمثيلية التي تحدث كلما هبت عاصفة ما، وفوق ذلك حنقهم على مدير
البريد، رغم أنه أحمق وجبان، لكن المسألة تافهة ولا تستحق ضجة كهذه على مجموعة رسائل مفقودة.
-
لا تستحق؟!
ألا يكفي أن أبناء الأهالي ماتوا في الغربة وهذا الأحمق أضاع عليهم رسائلهم
الأخيرة بطمعه؟! لقد كان لديه حصيلة شهر من الرسائل التي كانت تنتظر في مخزنه ولم
يفكر بإرسالها إلّا بعد وصول خبر موت الأبناء ليوفرّ بعض المصاريف، ثم أرسلها بتلك
السفينة المتداعية التي غرقت بما عليها من الرسائل قبل أن تصل المرفأ، أنا لا
ألومهم أبدًا. وأعتقد أنك لن تفهم ما تعنيه الرسائل لهم.
-
لم
أخطئ عندما قلت أنها مدينة حمقى، ولا أقصد عجوز البحر ذاك الذي عشش الخرف في رأسه،
أتكلم عن كل أولئك الحمقى الذين سيخرجون للبحر. حمقى يخرجون بينما كبيرهم يختبئ في
بيته كسلحفاة، لا لا سيضع رأسه في الرمل كنعامة جبانة.
-
من
يسمع كلامك لن يتوقع أنك تتحدث عن صديقك المقرب الذي تقضي جلّ وقتك معه.
-
إن تقاعد
من إدارة البريد سينتهي كل ما بيننا. هل تتوهمين أني أحمل له تلك المشاعر التي
توصف بالصداقة أو شيء كهذا؟! إنه رجل ضعيف، لا تكاد السماء تمطر حتى تمطر جبهته
عرقًا، وكأنه لا يكفينا مطرٌ واحد نغلق من أجله المحلات ويؤخر وصول البضائع، وفوق
ذلك أولئك الحمقى لا تكفيهم الخسارة من إغلاق المحال وسيخرجون تحت المطر الشديد
ويتلفوا ملابسهم وأحذيتهم، وكأنه لا تكفيهم خسارة واحدة، هل قلت لك أنهم حمقى؟
بينما هو يثرثر أمامها عن التفاهات التي تحيط به وسكان المدينة
الحمقى، ومع اشتداد وقع المطر فوق السقف، تناهى إلى سمعها صوت الخطوات المسرعة
للبحر. اختلست نظرةً من النافذة التي غلفّها الضباب وتزاحمت عليها قطرات الماء، رأت
الأشباح والظلال السوداء تعدو للبحر غير عابئة بالريح التي تجرّهم للخلف ولا
بالمطر الذي يهطل من السماء ويدفعهم للأرض.
(3)
وصلت (ذِكرى) مع بقية الأهالي إلى قمة الجبل الذي يشرف على الشاطئ.
البحر أمامها يناطح السماء بأمواجه العالية، والأرض اجتمع عليها طوفان السماء
وفيضان البحر. وقفت (ذكرى) بابتسامة كبيرة وعين تلمع بالأمل، أمام الاتحاد المهيب
للسماء والبحر والأرض، ورددت في نفسها " يجب أن تظهر هذه المرة. يجب أن
تظهر".
" الإنسان هو الوحيد الذي يتحدى مرور الزمن". اعتادت
قراءتها كثيرًا في رسائله التي واظب على كتابتها لها، كما اعتادت سماعها من فمه
الذي لم يقبّلها منذ خمس سنوات، ولن يستطيع أن يقبلها بعد الآن. خرجت إلى البحر
لتستعيد قبلاته، ولتتذكر ضياعها في جسده الكبير عندما يحتضنها، ولتفرح بعيونه وهي
تتأملها وتُـشعرها بأن جمال الكون تجسّد فيها.
أرادت استعادة الرسائل لتتعالى فوق الزمن وتتحداه. قال لها سابقًا أن
الرسائل إيقافٌ للزمن وتحدٍ لتدفقه الذي لا ينتهي، عندما يكتب أحدهم فهو يكثّف المشاعر
التي فرقها مرور الأيام ويجمعها في رسالة واحدة. فالرسائل فيضٌ لا ينضب، ومشاعرٌ
تنهال وهي تسخر من الزمن الذي سينحسر يومًا ما. حذرها دائمًا من الركون لذاكرتها
البشرية التي لا تنجو من غوائل النسيان وامتزاج الحقيقة بالخيال. حضّها دائمًا أن
تكتب له، أراد لحبهم أن يكون موجودًا حتى بعد أن ينعدم وجودهم هم. كانا يحاربان
الفناء بالكتابة، ويرتقان شظايا الذاكرة بحبر الأقلام. كانا يخلّدان الإنسان حتى
بعد غياب الإنسان.
وقف العجوز كعادته متقدمًا عنهم، عينه تخوض في البحر وتبحث عن حقيبة
الرسائل المفقودة. كانوا خلفه ولم يعرفوا هل عجز عن رؤية البحر وهو يتقدم نحوه، أم
أنه كان يرجوه أن يأتي ويأخذه إلى رسائل ابنه.