في البداية أعتذر إذا كان العنوان جذابًا، لأن هذا المقال لا يعد بالشيء الكثير، فهو محاولة للفضفضة الذاتية وترتيب الأفكار. وهناك تنبيه بسيط وهو أن المقال يستعرض الظاهرة الغربية الاستهلاكية لأنها الأكثر تطرفًا وسماتها أكثر وضوحًا. فالموضوع ليس تبعية أو استيراد لمشاكل لا تخصنا، ولكنها محاولة نقد يمكن أن تطبق على قيم الاستهلاك الذي نعيشه ونعاني منه في حياتنا اليومية.
شدني قبل عدة أيام منظر أحد عمال المقاهي. وسط انهماكه في الجري بين الطاولات وتحضير أكواب القهوة للزبائن لا يمكن لعينك أن تتجاهل منظر سمّاعات الأذن اللاسلكية البيضاء التي تنزلق من جانبي وجهه، وحَرص على أن تكون واضحة لجميع الزبائن. المثير أن السمّاعات ليست رخيصة الثمن، وتوجد بدائل لها تقدم نفس المزايا بسعر أرخص لا يقسو كثيرًا على راتب العامل، ولكنّ عيبها الذي لا يمكن غفرانه أنها لا تحمل العلامة التجارية المشهورة للتفاحة المقضومة.
شدني قبل عدة أيام منظر أحد عمال المقاهي. وسط انهماكه في الجري بين الطاولات وتحضير أكواب القهوة للزبائن لا يمكن لعينك أن تتجاهل منظر سمّاعات الأذن اللاسلكية البيضاء التي تنزلق من جانبي وجهه، وحَرص على أن تكون واضحة لجميع الزبائن. المثير أن السمّاعات ليست رخيصة الثمن، وتوجد بدائل لها تقدم نفس المزايا بسعر أرخص لا يقسو كثيرًا على راتب العامل، ولكنّ عيبها الذي لا يمكن غفرانه أنها لا تحمل العلامة التجارية المشهورة للتفاحة المقضومة.
أخذت
القيم المادية تترقى سلم الأولويات منذ التطور من الاقتصاد المنزلي والتبادلي إلى اقتصاد النقد والمصنع. وبعد أن قُضيت الضرورات والحاجات الأساسية أصبح هناك سعي
وراء الكماليات، وانقلبت – إذا استعرنا مصطلحات المسيري - العلاقات التراحمية التي
لا يقطعها إلا الموت، إلى علاقات تعاقدية قصيرة الأجل ومحكومة بتقلبات السوق.
عادة
يربط تصاعد القيم المادية مع تآكل الروابط الاجتماعية، وكأنهما خطان متوازيان
بينهما علاقة تلازم، ولكن من المثير التفكير في أننا لا نتكلم عن علاقة سبب
بنتيجة، ويمكن أن نرى تصاعد القيم المادية هو ذاته تآكل الروابط الإنسانية، فهي
عملية واحدة لها أكثر من وجه.
يصف
جون ديوي حالة الإنسان الأمريكي في الثلاثينات بأنه "متناقض بشكل مدهش".
فقلبه يفتن بمنظر الأسر المستقرة، ومشاهد الأباء وهم يلعبون مع أطفالهم، وعلاقات
الصداقة التي تدوم لوقت طويل، وليس من الصدفة أن الجانب الأسري يكون له حضور دائم
عند المرشحين للانتخابات ومن يطمعون بأصوات الناخبين. وكل هذا طبيعي جدًا ويستحق
الإعجاب، ولكن الغريب أن الشخص الذي تأسره مناظر كهذه فإن أسلوب حياته يقوده
للاتجاه المغاير، فالعمل والوظيفة هما المركز الذي يدور حوله كل شيء، وعلى أي شيء
آخر أن يتكيف مع ظروف العمل إن كان يريد أن يبقى له وجود. فالعلاقات العائلية تضفي
الأمان والطمأنينة ولكنها لا تعوّض الفارق المادي بين الوظيفة الحالية وبين الجديدة
التي تقع في مدينة بعيدة، والأطفال رائعون أيضًا ولكنهم يتطلبون جهدًا كبيرًا
ووقتا كثيرًا وهذا من الحظوظ التي تنال الوظيفة النصيب الأكبر منها.
حالة
التناقض تلك تنم عن اضطراب في الهوية، وعدم اتساق بين الجانب الروحي والمادي في
الأنسان. أسئلة الحياة الكبرى مثل غاية الوجود ومعنى الكفاح والعيش، كانت تقدم
إجاباتها من منطلقات دينية. ولكن الدين لم يسلم من حالة التفكيك التي رافقت النمو
الاقتصادي، والتطور الفلسفي. فالدين الذي يكفل تقديم إجابات الحياة فقد صلابته
وتماسكه في عالم النسبية الأخلاقية الذي يغيب عنه مفهوم " الصح والخطأ "
ويمجّد فيه " احترام الآخر "، وأصبح سائلًا يتكيف مع الظروف ويتشكّل على
المحيط الذي يوجد فيه. فتجد بعض مسلمي الغرب يتظاهرون مع الشواذ والمتحولين الجنسيين،
ويمتلئ المسجد المختلط بأعلام الشذوذ. ومثل هذه الميوعة تجدها عند المصارِعة المحجبة
التي تعارك الرجال، فالبصر مغضوض والأجساد تتلامس. ومن مشهدنا المحلي أتذكر احتفاء بعض الشباب بأحد اللاعبين العالميين عندما سجد بعد تسجيله لأحد الأهداف، وأثنوا على اعتزازه وتمسكه بهويته الدينية، رغم أن المباراة تعرض وقت الصلاة، أي في الوقت الذي يفترض أن يكونوا هم ساجدين فيه.
الدين
الذي يفترض أن يشكل الهوية ويحكم طريقة الوجود والعيش، اختزل جوهره إلى مظاهر، واصطبغ
بالذوق والاختيار الشخصي، وكأنه "أسلوب حياة" أو "لايف
ستايل". ومثل هذا التدين لا يساهم بشيء في بناء هوية متماسكة، فهو واهٍ ولا
يقوم عليه شيء، ولأنه فقد مصدر الإلزام وأصبح متكيفًا مع الذوق الشخصي فإن الهوية
التي تبنى عليه تفتقد اليقين.
مع
موجة التفكيك التي لا تنتهي، أصبحت الهوية صناعة شخصية، ومعنى الحياة خاضع لرغبة
الفرد، فهو يصنع بحياته ما يشاء. وبناء عليه فالهوية تقبل التغير وليست ثابتة، فهي
في النهاية مسألة اختيار شخصي قد يصيب وقد يخطئ، ومسألة الصواب والخطأ لا تتكشف
إلا بالتجربة والاختبار، وأيضًا كيف يكتشف الفرد ذاته حقًا ويعرف ما يريده هو؟! فسلم
القيم وأهداف الحياة وأولوياتها يجب أن تتبع وتتقلب مع هذه الهوية المتغيرة. وحالة
التقلب والتغير يتولد منها غياب للثقة، وافتقار لليقين.
وما زلت
أتذكر هذا الحوار الطريف والمعبر الذي يعبر عن غياب الثقة واليقين، في إحدى
الروايات الأمريكية:
قالت دینیز: « كيف كان الدرس؟»
- « يمضي على نحو ممتاز إلى درجة أنهم يريدون مني تدریس فصل آخر».
- « عن ماذا؟ »
- «الأكل والشرب. اسمه الأكل والشرب: سمات أساسية. ولا بد لي من الاعتراف بأنه أشد حماقة بقليل مما يفترض به أن يكون حتما».
قالت دینیز: «وما الذي ستدرسينه؟»
- « هذا كل شيء. الأمر عصي على الإحاطة الشاملة. كل أطعمة خفيفة في الطقس الدافئ. واشرب كمية كافية من السوائل».
- « ولكن الجميع يعرفون هذا».
- « المعرفة تتغير يوميا. يحب الناس أن يروا معتقداتهم وقد تعززت. لا تستلق بعد وجبة ثقيلة. لا تشرب الكحول على معدة فارغة. لو توجبت عليك السباحة، انتظر ساعة على الأقل بعد الطعام. العالم أشد تعقيدا بالنسبة للبالغين منه للأطفال. لم نكبر مع هذه الوقائع والمواقف المتبدلة. بدأت الظهور في يوم ما فجأة. لذا يحتاج الناس إلى أن يطمئنهم شخص في موقع سلطة بأن هذه الطريقة في فعل أمر. ما الطريقة الصحيحة أو الخاطئة، حاليا على الأقل. أنا كنت أكثر شخص في متناولهم، هذا كل شيء».
ما
علاقة الاستهلاك بكل هذا؟ الاستهلاك هو بمثابة الرمل الذي يسد التصدعات والفجوات
التي يحدثها غياب الثقة واليقين. هو إشباع مؤقت يقاوم به الإحباط المتكرر، وفي
حالة متطرفة يكون الاستهلاك وسيلة لشراء القيم وبناء الهوية.
عانت
شركات التبغ الأمريكية في العشرينيات من عزوف النساء عن التدخين، ولم يكن تدخينهم
مقبولًا ولائقًا اجتماعيًا، وفشلت الدعايات الترويجية بإحداث أي تأثير يذكر
لاستمالة سوق النساء الكبير إلى التدخين، فذهبوا لأحد خبراء التسويق ليحل لهم هذه
المعضلة. وكانت دعايته كما يلي: خلال أحد المهرجانات الشعبية استأجر خبير التسويق
عدة ممثلات وسيدات من الطبقة المتوسطة، ليسيروا مع حشود المحتفلين ومع علامة متفق
عليها أخرجوا سجائرهم في وقت واحد وبدأوا بالتدخين، ولأن المنظر لم يكن معهودًا
فقد تسابق المصورون لتوثيقه، وبالطبع كان خبير التسويق موجودًا بين المصورين، والسطر
الأخير من هذه المسرحية البارعة أتى على لسانه عندما قال للمصورين أنه سمع أن بعض
النساء سيتظاهرون ضد التمييز الجنسي، ويبدو أنهم قد "أوقدوا شعلة
الحرية". فأصبح شراء السجائر بمثابة تحقيق للاستقلال والمساواة، وانتصار ضد
التمييز الجنسي، وأصبحت الحرية تشترى عن طريق إدمان النيكوتين.
الهوية
المتماسكة والثوابت القطعية المتيقن منها ستقاوم مثل هذه الدعايات بسهولة، لأن
لديها الثقة والقدرة على الوقوف ضد هذه الدعاية والمتأثرين بها؛ الذين سيرون أنها
تقف ضد الحرية. ولكن حالة عدم الثقة ستجر الفرد مع جموع الناس حتى لو كان يعلم بأن
في التدخين لا علاقة له بالحرية. والمرحلة الأخيرة هي التصديق والشعور الفعلي بتحقيق
الحرية المنشودة عند التدخين.
فالهويات
غير المتماسكة والواثقة، لن تقاوم دعايات الاستهلاك التي تبيع الحرية والاستقلال في
صورة سيجارة، والإغراء الجنسي على شكل سيارة فارهة وعطر فواح، وشعور التميز
والتفرد عن طريق حذاء أو قطعة ملابس. فالاستهلاك يتغذى ويعيش في مواضع التصدعات وشعور
النقص وعدم الاكتفاء الذي يترافق مع الهويات الحديثة. أصبح جزء كبير من عملية الشراء
لا يدور حول الأشياء بذاتها وإنما للقيم التي تحملها عند شرائها.
المناظر
المعتادة لطوابير الزبائن التي تتكدس عند المحلات عند ظهور "موديل" جديد
توضح هذا الجانب. فالهاتف الذي صدر السنة الماضية لا زال يعمل بكفاءة عالية ومع
ذلك تجد صاحبه بين طوابير المشترين، والرداء المعروض في المحل لم يُلبس قط وقماشه
ما زال جديدًا ومع ذلك يهرب منه الزبائن – مع انخفاض قيمته- لموديل وتصميم أحدث.
فالحاجة المادية متحققة بكل الأحوال سواء مع الهاتف القديم أو الفستان الذي لم
يلبس، ولكن المستهلك يبحث عن الإشباع المعنوي.
في
عالمنا الحالي أصبح للأشياء حياة اجتماعية خاصة بها، فصلاحية المنتج المعنوية
والاجتماعية تنتهي وهو ما زال بحالة ممتازة ماديًا. فالانجراف وراء الاستهلاك
مصدره نقص وحالة عدم اكتفاء معنوية بالمقام الأول، ولهذا فمصدره هويات غير متسقة مع الإنسان بجانبيه الروحي والمادي، وتجعله يبحث عن تعويض واطمئنان روحي من خلال الماديّات.
لعل أكثر ما يوضح علاقة الهوية بالاستهلاك القصة التالية: في الستينات تظاهرت موجة كبيرة من طلاب الجامعات في أمريكا على ما أسموه " البيئة الرأسمالية الفاسدة "، فالقيم المادية هي ما يقدسه المجتمع، وفي الوقت نفسه تخوض الحكومة الأمريكية حربًا غير مبررة على فيتنام بدعوى نشر السلم وقيم الديموقراطية المتسامحة، ومراكز الأبحاث في الجامعات التي يدرسون بها تساهم في تطوير صناعة الأسلحة وتقدمها، كما تساهم في إتاحة وسائل الإغراء والدعاية لشركات التسويق عن طريق التحليل النفسي ودراسة الغرائز اللاشعورية التي تقود تصرف الإنسان(مثل الرغبة الجنسية والخوف والغضب والحب وغيرها)، وفي نفس الوقت عائلات الطلاب تدفعهم نحو هذه الجامعات لضمان لقمة العيش والحصول على وظائف ذات دخل مناسب بعد التخرج. فالطلاب رأوا أنهم محاطون بعالم لا أخلاقي يتغافل عن الإنسان ولا يرى فيه إلا الجانب المادي. لم تسفر المظاهرات عن أي شيء وانتشر بين الطلاب التفكير التالي: لو انسحبنا من هذه البيئة الخانقة وحاولنا اكتشاف أنفسنا الحقيقية وذواتنا سنكتسب حصانة ومنعة ضد الأفكار والدعايات السياسية والتروجية التي تستهدف غرائز الفرد الداخلية وتوجه سلوكه وهو لا يعلم، وهذا هو السبيل للانعتاق من عبودية المادية والتصرف كبشر حقيقين، يعيشون السعادة والحب لا عن طريق السلع والمطاردة المستمرة لوظيفة الأحلام ذات الراتب المرتفع، وإنما عن طريق فهم ذواتهم والعيش وفق مشاعرهم وتطلعاتهم الصادقة. وأصبح الانكفاء على النفس والذات بمثابة موقف سياسي ضد الرأسمالية والمجتمع المادي. برزت موجة جديدة تواكب هذا التوجه بما يسمى ( برامج تحقيق الذات ) التي تهدف أن تأخذ بيد المشارك فيها وتوصله إلى فهم نفسه وذاته الحقيقية، وطبعًا هذا بقابل مادي. كيف يصل الفرد لذاته الحقيقية؟ عن طريق الانعتاق من كافة القيود التي ترسخت في الفرد والتي تشربها عن طريق التقاليد والمجتمع والعائلة، فهناك مثلًا جلسات تعري جماعي تهدف لتطبيع الفرد مع جسده وتخلصه من تقاليد المجتمع التي تعيب التعري في المجال العام، وأيضًا هناك جلسات صراخ هيستيري لإفراغ الغضب والإحساس بحرية التعبير عن المشاعر، وغيرها من الشطحات الكثيرة.
المحصلة النهائية المكتسبة من هذه البرامج هي تحرر مطلق لا يعترف بالدين والتقاليد والمجتمع، وهذا في جوهره -وإن كان لا يعبر عنه بشكل صريح- ينطوي على رؤية عبثية وعدمية للحياة، فكل ما يحمل المعنى تم تحطيمه ليتيح المجال للاختيار الحر للفرد. وأيضًا تركت هذه البرامج المشاركين فيها برغبة ملحة جدًا في الشعور بتميزهم الفردي، والتعبير للناس عن ذاتهم الشخصية التي لا يشتركون فيها مع أحد والتي تعبر عن مكنونهم، فهم في النهاية تخلوا عن كل شيء لهذه الذات المقدسة.
كيف تعبر عن تميزك الفردي وتظهره للناس والغرباء؟ بما أن العلاقات الإنسانية والروابط الداخلية تتآكل، فليست هناك طريقة أنجع ولا أفضل في التعبير عن شخصيتك الخاصة وذاتك المتميزة من المظاهر والشكل الخارجي، فبهذه الطريقة ستظر تفردّك حتى أمام الغرباء الذين تقابلهم بالشارع ولا يتسع الوقت لكي تجلس معهم وتعبر لهم بكلامك وأفعالك، فالمظاهر الخارجية لغة التواصل بين الغرباء والمعارف على حد سواء. فالحاجة الماسة للتفرد والتعبير عن المعنى الذاتي للحياة أعادت هؤلاء إلى أحضان الرأسمالية التي فتحت أذرعتها لهم وعانقتهم بحرارة الأم التي عاد أطفالها بعد غياب. فالرأسمالية ومنتجاتها التي توهم بالتعبير عن الذات، ووعودها بالأصالة والخصوصية التي تأتي مع التصاميم التي لا تنتهي والألوان دائمة التجدد هي ما أشبعت حاجة التفرد وملأت الفراغ الذي تولد من انكفاء الفرد على ذاته. وهذا كله سخرية كبيرة، فهؤلاء هربوا من الرأسمالية وعالم الماديات ليعودوا إليها في النهاية.
المحصلة النهائية المكتسبة من هذه البرامج هي تحرر مطلق لا يعترف بالدين والتقاليد والمجتمع، وهذا في جوهره -وإن كان لا يعبر عنه بشكل صريح- ينطوي على رؤية عبثية وعدمية للحياة، فكل ما يحمل المعنى تم تحطيمه ليتيح المجال للاختيار الحر للفرد. وأيضًا تركت هذه البرامج المشاركين فيها برغبة ملحة جدًا في الشعور بتميزهم الفردي، والتعبير للناس عن ذاتهم الشخصية التي لا يشتركون فيها مع أحد والتي تعبر عن مكنونهم، فهم في النهاية تخلوا عن كل شيء لهذه الذات المقدسة.
كيف تعبر عن تميزك الفردي وتظهره للناس والغرباء؟ بما أن العلاقات الإنسانية والروابط الداخلية تتآكل، فليست هناك طريقة أنجع ولا أفضل في التعبير عن شخصيتك الخاصة وذاتك المتميزة من المظاهر والشكل الخارجي، فبهذه الطريقة ستظر تفردّك حتى أمام الغرباء الذين تقابلهم بالشارع ولا يتسع الوقت لكي تجلس معهم وتعبر لهم بكلامك وأفعالك، فالمظاهر الخارجية لغة التواصل بين الغرباء والمعارف على حد سواء. فالحاجة الماسة للتفرد والتعبير عن المعنى الذاتي للحياة أعادت هؤلاء إلى أحضان الرأسمالية التي فتحت أذرعتها لهم وعانقتهم بحرارة الأم التي عاد أطفالها بعد غياب. فالرأسمالية ومنتجاتها التي توهم بالتعبير عن الذات، ووعودها بالأصالة والخصوصية التي تأتي مع التصاميم التي لا تنتهي والألوان دائمة التجدد هي ما أشبعت حاجة التفرد وملأت الفراغ الذي تولد من انكفاء الفرد على ذاته. وهذا كله سخرية كبيرة، فهؤلاء هربوا من الرأسمالية وعالم الماديات ليعودوا إليها في النهاية.
فالقيم تشترى مع المنتجات، والاستهلاك في حالته المتطرفة بناء للهوية وتعبير عنها، والتسوق تحقيق للوجود الإنساني.