الأحد، 1 سبتمبر 2019

قصة الرومانسي الحالم



مشيته لم تكن عادية أبدًا. قبل أن يتحول منظر خروجه اليومي إلى طقس معتاد؛ كان الناس يقسمون أنه يرى بقدميه لا بعينيه! خطواته الهوجاء كانت تترك أثرها على كل شيء تمر بجانبه. اللحظة التي يترك فيها ممرًا ليلج في آخر، كانت بمثابة معاهدة سلام للأول وإعلان حرب للأخير؛ أبواب الممر الخشبية تسحب نفسها للداخل خشية الاصطدام بساقيه المتعجّلتين، سلال القمامة تهدئ من رَوع أكواب القهوة المتراكمة فيها، أمّا أحذية زملائه فتقوم بشدّ الأقدام التي بداخلها إلى زوايا الممر؛ لعلها تخفف من آلام دعس أقدامه عليها.


لم يكن من أولئك الثرثارين كثيري الحديث، ولم يخالط زملائه كثيرًا، كان هادئًا خجولًا، وفي نظرهم كان مثالًا للأدب ودماثة الخلق. كان دخوله للصف أشبه ما يكون بالتسلل، تحية سلامه خافتة لا تكاد تُسمع، عندما يهّم بالجلوس يرفَع كرسيه بخفة مخافة أن يحدث أي ضوضاء، ثم يتصلب على كرسيه كناسك ويتوحّد معه ليصبحا كيانًا واحدًا يثير الاستغراب والدهشة عندما يتحدث. ساعات الدرس تقلب ذاك المسكين رأسًا على عقب، ويتحول دخوله الهادئ، إلى مسرحية عالية الضوضاء عندما يخرج!


يبدأ اليوم الدراسي بالرتابة المعتادة التي تميّز دروس الكيمياء، ويبدو مُحاضر المادة ككيان لا تسري عليه سنن الزمن؛ وهو يردد بطريقة آلية تلك الجمل التي اعتاد تكرارها في العشرين عامًا الماضية: " عدد ذرات المواد المتفاعلة يجب أن يساوي عدد ذرات المواد الناتجة، وإلّا فإننا نكون خالفنا قانون حفظ الكتلة. لا يمكن أن نُـفاعل ذرتي كربون وتخرج لنا ذرة واحدة فقط! تذكروا يا شباب، كل شيء يجب أن يسير حسب القوانين التي تحكمه...". يكفّر مُحاضر الكيمياء عن الطريقة الآلية التي يلقي بها دروسه، بالطريقة البديعة والشاعرية التي استحدث بها نظام توقيتٍ جديد يعتمد على حس المسؤولية في الإنسان. فمنذ تعطّل الجرس الذي يعلن بكل صخب نهاية درس وبدء آخر، كان المحاضر يعتمد في معرفة الوقت على الصرير المميز لأحذية مدّرس مادة الرياضيات، الذي يذرع الممر جيئة وذهابًا بنفاد صبر واضح، لاعنًا في سره مُحاضر الكيمياء الذي دائمًا ما يسرق دقيقتين من درسه.


الطريقة التي يُلقي بها مُحاضر الرياضيات درسه تفضحه، ولا تترك أثرًا للشك في نفوس طلابه. فالشائعة المنتشرة خارج قاعة الدرس عن قصة غرامه الخفي، وحبّه المحرّم، تكشف عن نفسها كحقيقة لا يمكن لعيون طلابه أن تخطئها. وعلاقة العشق هذه هي ما برّرت للطلاب اللامبالاة التي يعاملهم بها مُحاضر الرياضيات، وعدم تحدثه إليهم خلال الدرس بأكمله. قد يكون الطلاب صغار سن، ولم يحظوا بمغامرات عاطفية في حياتهم، ولكنهم غفروا لمعلمهم هذا الإهمال والتجاهل؛ إذ إن هذا هو الوقت الوحيد الذي يلتقي فيه محاضر الرياضيات مع محبوبته. يقف المحاضر طِوال الدرس موليًا ظهره للطلاب، ومتوجهًا بالكلام إلى عشيقته، يداعبها بقطع الطباشير التي يحملها بين أصابعه، ويحرص أن يمرّ بطباشيره متعددة الألوان على كافة جسدها، ولا يلتفت لطلابه إلّا في نهاية الدرس بعد أن ملئ محبوبته بأرقامه ومعادلاته ورسومه. يُغادر محاضر الرياضيات قاعة الدرس، وتخلع السبورة ثوب المحبوبة وتلبس ثوب الجمادات، مستعينة بما كتب عليها من القوانين الجّافة، والعلاقات الرياضية الآلية التي لا تقبل التعديل والتبديل، والأرقام المنقولة من صيغة صارمة لأخرى لا تقل صرامة عنها. فتغدو السبورة في نظر صاحبنا شيئًا يحارب الإنسان الذي في داخله، شيئًا لا يعترف بالمشاعر ولا يكترث للعواطف، شيئًا يمنعه من حريته وتعاليه وينزل به لمقام عبد رقيق أو آلة صمّاء.


تشتد أوزار حرب القوانين العلمية على نفس صاحبنا المسكين في درس الفيزياء، إذ إن روحه قد أرهقت بعد كر وفر مع جماد الكيمياء وجفاف الرياضيات. لا يدّخر محاضر الفيزياء جهدًا في إقحام قوانين مادته في كل ما يستطيع، فهو يحاصر صاحبنا من كل الجهات، يهاجمه وهو يقود سيارته بقوانين السرعة والتسارع، ويباغته عندما يحمل مشترياته بقوانين الجاذبية والقوة، يداهم عليه نومه وأحلامه بقوانين الريبة والشك. تحدث لحظة الاجتياح الكامل والانكسار أمام سطوة القوانين، عندما يخبر المحاضر طلابه أن كل ما يرونه ويختبرونه بأعينهم هو نتاج لقوانين العدسات وانكسار الضوء وانتشار الموجات الكهرومغناطيسية. ترزح نفس صاحبنا تحت وطأة هذا الغزو، ويترك قاعة الدرس لينجد إنسانه المهزوم، ويضمد جراح روحه التي نالتها القوانين العلمية بجفائها وحتميتها وجمودها.


أولى خطواته في الحديقة الخارجية تعيد إليه حنين طفولته، وكأنه يريد لهذه الخطوات أن تكون بداية جديدة، وولادة لروح لا تنالها توقعات قوانين العلم ولا تأسرها حتميّاتها، يريد أن يستعيد إنسانه الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في قاعة الدرس. تقع عينه على وردة صفراء بينما هو تائه في أفكاره، أو ربما كانت الوردة هي من تبحث عن عينيه. كان يعرف من درس الأحياء أنها نمت من سقيها اليومي بالماء، ولكنه يختار أن يصدق أنها نمت بسبب قطرات العرق التي سقطت من جبين الفلاح الذي زرعها. يعرف أن اصفرارها يعود لإشعاعات الضوء وانعكاسها على العين، ولكن روحه ترى أن الشمس أهدتها هذا اللون لتحارب به وحشة الليل وتتقي به برد الشتاء. أراد ألاّ يعرف واختار أن يتخيّل.